2009/06/06

خواطر حول خطاب أوباما

وأنا أتابع كلمة الرئيس باراك أوباما ، تذكرت ما تناقلته وسائل الإعلام من دعوة السفارة الأمريكية في القاهرة ابنةَ الشيخ المقريء الحصري السيدة إفراج الحصري ( ياسمين الخيام ) لحضور كلمة الرئيس الأمريكي ، تلك الفنانة التي تابت من الفن فاعتزلته وارتدت الحجاب وأسست مجمعا باسم أبيها ، كما ساهمت في توبة عدد من الفنانات ؛ وقد كشفت أن أباها الشيخ محمود الحصري كان صديقا لحسين أوباما والد الرئيس الأمريكي ، وأنه كان على علاقة وطيدة بوالدها ، وأن الشيخ الحصري سبق أن أهدى لحسين أوباما نسخة من المصحف المرتل بصوته في إحدى رحلاته .
وبعد مدة وجيزة من استماع خطاب باراك أوباما بعثت إليَّ إحدى الأخوات تعليقا لها على الخطاب ، وعنونته بقولها : باراك أوباما مستشرق لا مرتد ! مبدية تخوفها من وصول مستشرق إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة ؟ حيث لا يخفى خطورة كثير من المستشرقين على الثقافة الإسلامية .. وأيدت رؤيتها بأن باراك أوباما مارس شيئا من الطعن في القرآن ، كما لو كان مستشرقا من خلال إنكار حقائق قرآنية كالجهاد ، حين نفى أن تكون الحرب حلاً للنزاعات ، وحين أنكر جدوى ما يعد مما يستطاع من قوة ، بما فيها الصواريخ التي ذكرها في خطابه ؛ كما أنكر السنة الثابتة ، بنفيه لأن تكون العاقبة للمسلمين في الصراع مع اليهود : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله ، إلا الغرقد ؛ فإنه من شجر اليهود " ..
لكن الأخت الكريمة بينت ما قد يقلل من شأن تحليلها السابق متعجبة من أن ثقافته الإسلامية التي ظهرت في هذا الخطاب جيدة ..أي بخلاف ثقافة الحاقدين من المستشرقين .
وختمت رسالتها قائلة : " تمنيت أن لو كان لحكامنا ثقافة شرعية ! نستمع من أحدهم خطابات منذ أن ولدنا ولم نسمع منهم آية أو حديث .. وهل من مانع أن يستشرق الحكام ؟ " ..
قلت لها : لي في المسألة نظر آخر ، فأبو حسين شخص يحمل ثقافة إسلامية بحكم الأصل والنشأة .. لكنه ليس مستشرقا ، فثقافته الإسلامية في نظري ثقافة نشأة واهتمام عائلي وليست ثقافة بحث استشراقي لغربي . ووعدتها بأن أكتب شيئا ما حول قضية ثقافة باراك أوباما في خطابها هذا وأثرها على السياسة الأمريكية . وحتى أفي بالوعد ، رأيت أن أكتب شيئا ما ، مهما كان يسيرا ، فكانت هذه القراءة السريعة ، والتي استثار بعض نقاطها معي بعض الإعلاميين البارحة ..
إن خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما حمل رسائل عديدة من أهمها الرسائل العاطفية للمسلمين ، ساهمت في التأثر بها وتأثيرها ثقافة النشأة ، واتضح ذلك من خلال إعادة استشهاده بالقرآن ووصفه بالمقدس بضع مرات في خطابه ، وإن حاول الاستشهاد بالتوراة والإنجيل إضافة إلى القرآن الكريم في بعض المواطن ، ومن المعلوم أن المظلوم يرحب بأي تعاطف ويقدره مهما كان ، ولو كان مجرد كلام ، لشعور المظلوم بشيء ما من الإنصاف والاعتراف .. و مما يمكن أن يلحظ : إشارة أوباما للسنة النبوية عند الاستشهاد بها تحت مسمى القيم المتفق عليها عند أهل الأديان بدل نسبتها إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما فعل في الاستشهاد بالقرآن !
وتأتي هذه الرسائل العاطفية بوصفها أحد متطلبات بناء بعض ما أفسده المحافظون الجدد قبله وعلى رأسهم مجر الحرب دبليو بوش . وهو أمر قد بدأه المحافظون الجدد في أمريكا قبل تخلي الناخب الأمريكي عنهم ، فقد حاولوا إنشاء علاقات مع المسلمين بعد أن أيقنوا بأن سمعة الولايات المتحدة قد تضررت كثيرا في عهدهم ، فلم تعد أمريكا عند عامة الناس فضلا عن المسلمين : "جنة الدنيا" ؛ بعد أن طغت روائح الطغيان الأمريكي بقيادة المحافظين الجدد على الكرة الأرضية وتصاعدت إلى الفضاء الخارجي ، وبعد أن دفعت آراء المحافظين الجدد الجيش الأمريكي إلى الدخول في حروب تجاوزوا فيها المنظمات الدولية ومجلس الأمن ذاته كما في احتلال العراق ، وابتدعوا قوانين تجاوزت المبادئ الأمريكية المعلنة .
ومما يلحظ أن أوباما مهد لإلقاء الخطاب في القاهرة بالزيارة التي سبقته للرياض واللقاء مع الملك عبدالله ، وإن كان ذلك يأتي ضمن إعطاء قطبي الزعامة العربية الاهتمام الكافي حيث إن الحكومة الأمريكية تنظر إلى المملكة ومصر على أنهما تشكلان قطبي الزعامة العربية والإسلامية ؛ وأن الزيارة للمملكة كانت اعترافا بأهميتها في القضايا محل الجولة الأمريكية ؛ إلا أن إلقاء الخطاب في القاهرة وتوجيهه للمسلمين ، يقتضي البدء بها ، ولا سيما أنها : " مهد الإسلام " كما عبر أوباما نفسه أثناء زيارته للرياض .
وأظن أن ثقافة أوباما الخاصة جعلته يخرج عن النص في خطابه في عدد من المواضع ليشرح من ثقافته ما نال ببعضه إعجاب الحضور فكسروا هدوء القاعة بالتصفيق ؛ وهو ما يشكل حدثا جديدا في الخطاب الأمريكي تجاه المسلمين ، يجعله أوسع إدراكا من المستشرقين الذين يظن أن بعضهم ساهم في إعداد هذا الخطاب ؛ وليس غريبا أن يخرج عن النص ، وأن يعمل فكره ، فهو رجل قانون يتمتع بشخصية محام تظهر عليه العقلانية ؛ كما سبق له الخروج على الثقافة الأمريكية والأعراف الرئاسية ، بانحنائه لخادم الحرمين الشريفين عند سلامه عليه في بريطانيا ، وهو تصرف لا ينفك عن ثقافته الشخصية التي اكتسبها في بلد النشأة ، فالانحناء الذي يعني الاحترام له جذوره في شرق آسيا ، وفي الثقافة الأندونيسية التي عاش أوباما في كنفها حينا من الدهر ..
نعم حاول الرئيس الأمريكي باراك أوباما من خلال حدثيه التركيز ضمنياً على مبدأ التغيير الذي قد يطرأ على مستقبل العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي في خضم التطورات السياسية والاقتصادية ، ولا سيما في ظل التدهور الاقتصادي الذي كان آخره إفلاس شركة السيارات العريقة جنرال موتورز ، وهو أمر لا يمكن إغفاله عند الحديث عن دغدغة العواطف العربية والإسلامية ، تمهيدا لعلاقات تساهم في إصلاح الاقتصاد الأمريكي ، الذي بات يشكل خطرا على الكيان الفيدرالي ، الذي بدأت تتململ بعض ولاياته علنا .
وأخيرا .. فإن من المتوقع أن هذا الخطاب سوف يقدم على المستوى العالمي خدمة ما للإسلام والمسلمين من حيث لفت الانتباه إلى صورة ذهنية أفضل ، تختلف عن لغة المحافظين الجدد ، إذ يتوقع أن خطاب باراك أوباما سوف يكون محل اهتمام أمريكي محلي وعالمي دولي ، وهو ما يفتح آفاقا لمن يستمعون الخطاب ويشاهدونه ، للبحث عن القرآن والتعرف على الإسلام .
كما أن من المتوقع أن يقدم الخطاب خدمة للرئيس أوباما شخصياً أكثر من خدمته للسياسية الأمريكية ؛ بسبب التباين في السياسة الأمريكية - التي تحكمها وترسم سياساتها عدة مؤسسات - بين القول والفعل ؛ ففي الوقت الذي كان أوباما يلقي خطابه ، كان جنود الولايات المتحدة يمارسون جزءا من المهام التي ألقى أوباما خطابه في محاولة لإزالة بعض آثارها .
وإذا ما عدنا إلى صلاحيات الرئيس الأمريكي في الشأن الخارجي - الذي يهم العالم الإسلامي - فإنها بمقتضى المادة الثانية من الدستور الأمريكي تتمثل في : رسم السياسة الخارجية والإشراف على تنفيذها ، فهو المسؤول الأول عن تنظيم العلائق الخارجية كإجراء المفاوضات وعقد الاتفاقيات والمعاهدات والاعتراف بالدول وتعيين الدبلوماسيين ، لكن النظام السياسي الأمريكي يجعل من رئيس الدولة رئيسا فعليا للسلطة التنفيذية بخلاف أنظمة الحكم البرلمانية ؛ ولذلك لا بد أن يعتمد على وجود جهاز تنفيذي ، وهذا الجهاز هو الذي يقوم بوظيفة مؤثرة جدا في قيادة الدولة ، ومن خلالها يتحول النظام المؤسسي الأمريكي إلى نظام تديره نخبة من الشخصيات التي غالبا ما تكون ذات تأثير بالغ في توجيه الدولة ، ويتحول فيها الرئيس إلى ما يشبه الرمز ، بينما تتحول بقية المؤسسات التقنينية إلى ميدان للشد والجذب في إطار يتحكم في مساره في الغالب الجهاز التنفيذي للرئيس ، وبمعنى آخر : فإن الولايات المتحدة وإن كانت دولة مؤسسات في الظاهر ، إلا أنها تدار في حقيقة الأمر من خلال الشخصيات ذات النفوذ في الجهاز التنفيذي للرئيس ، فحكومتها الحقيقية حكومة خفية ..كما أن الرئيس الأمريكي هنا مرشح حزب ؛ وهذا يعني أن تصرفاته يجب أن لا تخرج عن سياسة الحزب ؛ فأوباما مرشح الحزب الديمقراطي ، وليس مرشحا مستقلا .
ومن هنا فإن من المهم جدا أن لا نقرأ مستقبل السياسة الأمريكية من خلال شخصية الرئيس باراك أوباما كانت أكثر عقلانية ومهما كانت معتدلة الطبع بالنسبة لمن قبله ، فإن اعتدالها يتحول في أحسن حالاته إلا طريقة التعامل لا إلى حقيقة السياسة ، وبمعنى آخر : قد يكون أكثر دبلوماسية ؛ وهو ما كان ظاهرا في هذا الخطاب . ولعل الله يحدث به في زعزعة الأفكار الإمبراطورية الأمريكية أمرا يكون أصلح لأهل الإسلام ..
بقلم الدكتور / سعد مطر العتيبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق